الأربعاء، 18 نوفمبر 2015

الدعوة لنقد طائفة أهل السنة ، ونقد أئمتنا ، فقط لأنهم رفضوا الفلسفة المضادة للعقيدة

بسم الله الرحمن الرحيم
منابرنا الصحفية تسير ضد علومنا السلفية الصافية ، وهذا والله خطير على الأمة .
في صحيفة الرياض يوم الخميس 7 صفر 1437 نشر مقال بعنوان : (ابن القيم وشؤم الفلسفة ) ، وفيه نقد لإمامين عظيمين من أئمة أمة الإسلام هما ابن تيمية وابن القيم .
ليت أن النقد لمسألة أو مسائل يخالفان فيها ، لا ، بل النقد لأنهما ذمّا علم المنطق والفلسفة بالأدلة والبراهين .
يقول الكاتب : لماذا نأخذ طريق النقد فقط لمّا يكون موجها لغير علمائنا ومشايخنا .
ويقول : لماذا نؤمن بالنقد ، إلا على شيخ كابن تيمية وابن القيم .
ويقول : أولى الناس بالتأثير علينا هم أحراهم بنقدنا والتفتيش والتدقيق .
ويقول : لماذا تُنتقد الطوائف الأخرى وطائفتنا كأن لها العصمة .
ويقول : لماذا نستمسك بكل ما ورثوه ونعتصم بكل ما أخذوه .
يقول : يلزمنا أن ننتقد ابن القيم وابن تيمية في موقفهم من الفلسفة .
ويقول : خير أسوة لنا هو الأزهر حيث قرر تدريس الفلسفة الإغريقية .
ويقول : إن الله لا يغير ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا وننقد ما ترك هؤلاء لنا – ابن القيم وابن تيمية وغيرهم –
  أقول : صحافتنا تتحاشى نقد ولو بحق مراجع اهل الرفض او حتى ضلال اليهود والنصارى ، أما أهل السنة فنقد بغير حق و خلافا للعقيدة الصافية السلفية .


نص المقالة
جريدة الرياض  العدد: 17314

ابن القيّم وشؤم الفلسفة
"مَنْ أنتَ حتى تنتقد الغزالي؟" و"من أنتَ حتى تنتقد سيبويه؟"، و"من أنت حتى تنتقد الجرجاني؟".

هذه الأسئلة وأمثالها يستسيغها إطارنا الثقافي، ويفرح بها الناس حين يسمعون من يعترض بها على القائمين بالنقد، والواقفين مع التجديد، وهذا الفرح، وذاك البشر، يدلان دلالة واضحة على حال السياق الثقافي، وتبرم أهله من النقد، وهما يقودان، لا محالة، إلى اعتقاد أن هذا السياق الذي نعيش فيه، ونتعلّم منه، سياق مُقدّس لعالم الأشخاص، ومؤمن بعصمتهم، ومثل هذا السياق يُربّينا، ويُربّي أجيالنا، على هذا المنطق الذي يجعلنا نستبشر أيما استبشار حين نسمع كلاما في الرد على شاكلة هذه الجمل الجاهزة، التي تُدغدغ مشاعرنا، وتطرب أسماعنا، وحين ننظر بالعقل إليها؛ نراها هباء منبثا، و(قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا).

من أنت حتى تنتقد الغزالي وتعيبه؟! كلمات فيها حق وباطل؛ أما حقها فهو أن الغزالي علم من الأعلام، ضرب في كثير من العلوم بسهم وافر، وأما باطلها فهو أن يُعجب من نقد مثلي له، ويرتاب من إقدامي عليه، وكأن النقد، ما شُرع ولا قرر، إلا للضعفاء الذين لا ناصر لهم، ولا جماهير تتبعهم، وأما الشرفاء "إذا سرق فيهم الشريف تركوه" (سرقة العقل) الذين أطبقت الأرض سمعتهم، وذاعت فيها أقوالهم، وأضحت العلاقة البيّنة بين ما نحن عليه وبينهم شيء يدفع إلى اعتقاده، والإيمان به، موقفنا منهم، ومدافعتنا عنهم، فنذرهم، ونتجافى عن نقدهم، وتعقّب أخطائهم، وما أصاب عقولنا، ولا أردى قابلياتنا، إلا ما ورثناه من زلاتهم، واحتقبناه من أخطائهم.

نأخذ طريق النقد، ونذهب فيه، ولا يصدنا شيء عن الإيمان به، والركون إليه، نرى ذلك، ونعتصم به، ونلوذ بظله حين يكون النقد موجها لغيرنا، ومقصودا به غير علمائنا ومشايخنا؛ فما الذي يُحيل الإيمان بالنقد إلى الكفران، والرضا به إلى السخط عليه، حين تراش سهامه إلى من بنيت معرفتنا عليه، وقامت سوق ثقافتنا به؟!

نؤمن بالنقد، وأن الناس ينقد بعضهم بعضا، ويرد بعضهم رأي بعض، ونؤسس هذه المقدمات في كل حين، ونؤكد عليها في كل حوار، فما الذي يتغيّر حين يُوجه النقد إلى شيخ كالغزالي، أو ابن تيمية وابن القيم؟ 

هل الشرفاء في ميدان المعرفة، والرموز في مجال الفكر، بَراءٌ مما نحن فيه، وإنما قامت ثقافتنا عليهم، وارتكزت على ثمار عقولهم؟ أليس أعظم الناس تأثيرا علينا هم أولى الناس بنقدنا، ومراجعتنا، وهم أحرى الناس بتفتيشنا خطاباتهم، وتدقيقنا لما ورثناه منهم؟

النقد الذي لا يمس المؤثرين، ولا يتجه إليهم، لن ننتفع منه في كثير ولا قليل؛ لأن هؤلاء المؤثرين هم الذين نُعد صورة لهم، ونسخة من نسخهم، وهم الذين يرجع إليهم ما نحن فيه، ويُنتظر منا إعادة النظر فيما ورثناه عنهم، وأما أولئك المغمورون، الذين لاصوت لهم يُعرف، ولا أثر لهم يُشاهد؛ فالانشغال بهم، والتعقب لما قالوه، لن يغير من حالنا شيئا، ولن يرفع عنا ما نزل بنا، وإذا كنا مأمورين بدفع معروفنا للأقربين، وتخصيصهم به؛ فالنقد وإعادة النظر باب من المعروف أيضا، بل هو أعرف المعروف؛ لأننا به نحفظ المعروف، ونحوطه، وندرأ عنه؛ فليكن معظمه إلى هؤلاء المؤثرين الذين لهم باع طويل في تشكيل ثقافتنا، وتطويع ذائقتنا، وصناعة عقولنا.

لو ذكرتَ لهؤلاء، الذين قالوا تلك الأقوال التي صدّرتُ به المقالة، الطوائف المخالفة لهم في المذهب، والجماعات المناوئة لهم في التصور؛ لقالوا لك: ما رُزئ هؤلاء إلا برموزهم، وما ضلوا إلا بشرفائهم، وما جرى لهم ما تراه إلا بإغفال عقولهم، وترك التفكير فيما قالته لهم تلك الرموز، وحين يُقال في رموزهم مثل ذلك، ويُجعل لهم نصيب مما هم فيه، ويُطلب منهم أن يراجعوا ما ورثوه، ينسون تلك النصيحة، ويغيب عنهم ذلك الرأي، ويستبدلون خطاب الدفاع والمحاماة بخطاب النقد والمراجعة، وينتهون إلى مفهوم العصمة، وإن حاربوه، وخصوا به الأنبياء والمرسلين، عليهم الصلاة والسلام، ويضحي النقد أخيرا ما شُرع إلا لغير رموزهم، وما أُبيح الجري عليه إلا في غيرهم، فيسوغ لهم وحدهم أن يستمسكوا بكل ما ورثوه، ويعتصموا بكل ما أخذوه، وبهذا ينتهون إلى فكرة الكيل بمكيالين التي عابوا بها غيرهم، وعدّوها ملمزا فيهم.

بعد قرنين من وفاة أبي حامد الغزالي الذي كفّر الفلاسفة، واتّخذ كفرهم سببا في تحذير المسلمين من الفلسفة، وجعله سُمّا مُخفى في عسل، يفتك بقارئ الفلسفة، ويُغشّ به دون أن يعلم، جاء ابن القيم، وهو رمز ثقافي معاصر، بطور جديد في نقد الفلسفة، وفضح الفلاسفة، وهو طور وعظي، لا يختلف عن كثير من خطابنا الديني المنتشر هذه الأيام، فجعل الاهتمام بالفلسفة، والعناية بالمنطق، سببا رئيسا في هدم العروش، ونقض الممالك، وثلب الدول، وسعى أن يقرأ بهذا الأمر تأريخ الأمم، فقال عن اليهود بعد موسى، عليه الصلاة والسلام،: "وأقبلوا على علوم المعطلة، أعداء موسى، وقدموها على نصوص التوراة، فسلّط الله عليهم من أزال ملكهم، وشرّدهم من أوطانهم، وسبى ذراريهم، كما هي عادته سبحانه وسنته في عباده إذا أعرضوا عن الوحي، وتعوّضوا عنه بكلام الملاحدة والمعطلة من الفلاسفة وغيرهم" (إغاثة اللهفان، 2/ 383).

مما يُؤخذ على ابن القيم تأريخيا في سياق حديثه عن فلاسفة اليونان ( 2/ 377 وما بعدها) أنه جعل فلاسفة اليونان في قوله المتقدم قبل موسى، عليه الصلاة والسلام، وأكّد هذا أيضا قائلا عن فرعون: "ثم سرى هذا الداء منهم في الأمم، وفي المعطلة، فكان منهم إمام المعطلين فرعون" (2/ 382) مع أن اليهودية انتشرت "قبل ما يقرب من سبعمئة عام من ظهور بدايات الفلسفة اليونانية" (راشد المبارك، شموخ الفلسفة، 53)، ومع أن "أقدم فلاسفة اليهود الذين أسسوا قنطرة الاتصال بين الدين والفلسفة هو، ولا شك، فيلون الإسكندي الذي وُلد في السنة العشرين قبل الميلاد، وتوفي بعد ذلك بنحو سبعين سنة" (العقاد، الله جل جلاله، 163).

أعاد ابن القيم فكرة الغزالي التي تجعل العناية بالفلسفة، والاهتمام بتراث الفلاسفة، سببا إلى الكفر والضلال، وزاد عليه أن الإقبال عليها، والحرص عليها، يُدّمر الدول، ويُفرّق الجماعة، وينزع الأمن، وزاد قوة هذه الفكرة الوعظية، التي هدفها التحذير وغايتها البعد عن الفلسفة، مرة أخرى حين قرأ تأريخ المسلمين من خلالها فقال في الصفحة نفسها: "وكما سلط النصارى على بلاد المغرب لما ظهرت فيها الفلسفة والمنطق، واشتغلوا بها، فاستولت النصارى على أكثر بلادهم، وأصاروهم رعية لهم، وكذلك لما ظهر ذلك ببلاد المشرق، سلّط عليهم عساكر التتار، فأبادوا أكثر البلاد الشرقية..، وكذلك لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة، وعلوم أهل الإلحاد، سلط الله عليهم القرامطة الباطنية، فكسروا عسكر الخليفة عدة مرات، واستولوا على الحاج، واستعرضوهم قتلا وأسرا..!".

يُنفّر ابن القيم من الفلسفة عبر قراءة الأحداث الدامية من التأريخ الإسلامي بها، فيجعلها مسؤولة عمّا حدث وجرى، وهي طريقة جماهيرية ناجعة، وأسلوب مؤثر، فات الغزاليَّ أن يفطن إليه، ولعله لو فطن لاتخذها أيضا، وهي فكرة وعظية رائجة هذه الأيام، وما على المرء حين يريد التحذير من شيء، ودفع الناس بعيدا عنه إلا أن يربط به المصائب النازلة، ويُحيل إليه النوازل المفجعة؛ ليخافه الناس على أنفسهم، ويتخذوه لهم عدوا، وتلك هي حال الفلسفة في ثقافتنا التي من العدل أن يُقال: إن ابن القيم كان يُحسن الظن بها، ويراها في الأصل خيّرة، غير أنه نسي ما كان قرّره حين قال: "فإن الفلسفة من حيث هي لا تُعطي ذلك، فإن معناها محبة الحكمة، والفيلسوف أصله (فيلا سوفا) أي محب الحكمة" (إغاثة اللهفان، 2/ 368).

الموقف من الفلسفة، والتشاؤم منها كما عند ابن القيم، هو أحد المواقف التي يلزمنا أن نتعقّب فيه، ومن أجله، أبا حامد، وابن تيمية، وابن القيم، وابن خلدون، وندفع عن ثقافتنا المعاصرة أثره، ونُعالج أضراره، ولنا في تأريخ الأزهر الحديث، وعلمائه، خير أُسوة؛ فقد أصبحت الفلسفة حتى الإغريقية مادة من مواده الدراسية، بفضل الشيخ المراغي، وفي الإشادة بهذا السياق الثقافي الجديد يقول محمد يوسف موسى: "لقد أصبحنا بفضل الله على ثقة بأن العداء الشديد، والخصومة العنيفة، بين رجال الدين ورجال الفلسفة قد انتهى إلى غير رجعة"(ابن سينا والأزهر).

المراجعة لما خلّفه الرموز، والنقد لما تركوه لنا، وكان له حضور طاغ في ثقافتنا، هو بوابة تغيير ما في الأنفس (إن الله لا يُغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، ودون القيام بهذا الدور، والاضطلاع به، وتحمّل الأعباء في سبيله؛ فلن نستطيع تغيير ما في أنفسنا، ولن نعرف النفق الذي يقودنا إلى ذلك، ومن يتحدث عن تغيير ما في نفسه دون أن يرجع إلى رموزه، ويُفتّش عن آثارهم فيه، فهو كمن يطلب من الأرض أن تجود لها بالثمار، وتعود عليه بخيراتها، دون أن يتفقّد، حين وضع بذوره فيها، آفاتها، ويُعالج عللها.

رابط المقالة :


التسميات: ,