الاثنين، 4 يناير 2016

الدعوة إلى التنكر للمسلّمات -وهل ديننا إلا مسلّمات ، و اعتبار العقل مرجعية عليا

بسم الله الرحمن الرحيم

نشرت صحيفة الرياض بتاريخ 20 ربيع الأول 1437 مقالا بعنوان ( تحرير العقل .. تحرير الإنسان ) بقلم محمد المحمود
فيه ما يلي :
1. الثناء على ما يسمى عصر التنوير ، الأوروبي النصراني ، للاقتداء به ومن ضمن خواصه كما ذكر الكاتب ( التحرر من المرجعيات الماقبلية التي تعتبر مسلّمات )
ولا شك أن هذا ضلال بعيد بل كفر محض .
2. يقول : إن العقل الحر هو الصانع لواقع الإنسان والواقع الإنساني والإنسانية تتمدد بقدر تعقلها ، وبمقدار ما يستقل الأفراد بعقولهم .
و هذا ضلال بعيد ومن سبل الشياطين ، فعقل الإنسان الصحيح هو الذي يقوده إلى هدي الوحيين ، أما الاستقلال بالعقل من غير هدي الوحيين فهذا ضلال .
3. يثني الكاتب على ما يسميه ( تحرير الفضاء الاجتماعي من أدوات القسر )
و قوله في هذا السياق والمقام يعني عدم التقيد بالشرائع الإلهية ، وهذا كفر
4. يقول الكاتب مثنيا : أصبح العقل مرجعية عامة ، وأصبحت الحرية مرجعية عليا
وهذا أيضا كفر وضلال واضح وجلي  .
5. ويثني الكاتب على ما يسميه ( رحلة التعقل والتحرر الإنساني التي لا  تعرف محطة وصولها سلفا ، ولا تعترف بأن لها محطة وصول )
وهذا أيضا كفر فقد عرّفنا الله سبحانه بوحيه كل مراحل الإنسان من بدء الخليقة حتى المآل إلى الجنة أو النار .
6. ثم يثني على حضارة الكفار قائلا : إنها منجر حضاري حق يستعصي على كل صور الدمار ويتجاوز كل أزمة .
وهذا ليس ثناء على تقدم تقني مجرد بل هو ثناء على الحضارة برمتها وهذا ضلال مبين . ثم ليس ثمة شئ يستعصي إذا جاء قدر الله .
7. ثم يسخر الكاتب من العرب - وهم المسلمون بالغالبية - ويقول إنهم على مستوى تراث الأثريات المخاصمة للعقل ابتداء .
فما يعني بالأثريات ؟ إنها الدين والشرع . الذي استبدله بما زعم أنه عقل متحرر .
8. ومما قاله في أول المقال : إن الإنسان لا تتحقق ماهيته بشجاعته ولا بأخلاقه وإنما تتحقق بإنسانيته وعقله .
ولا شك أن العقل إذا جعل بديلا مستقلا عن الشرع أنه ضلال ، وهذا يتضح من مجمل مقال الكاتب الذي لم يشر إلى الشرع إلا على سبيل اللمز .
9. ومما قاله : إن التنوير هو التحقق الإنساني وهو عصر الإنسان وتأكدت حقوق الإنسان والمرجعية هو العقل الإنسان .
10.   و يقول : إن المتغرب - أي المتبع للغرب -  هو المتحرر والاستثنائي .
وهذا كله أيضا ضلال مبين
  هذا الكاتب الضال له حوالي خمسة عشر عاما وتتبناه الصحيفة الأولى  في البلد ، نسأل الله أن يهدي الولاة لِلَجْم أهل الضلال ، و من المصائب أنه ليس ثمة محاسبة ظاهرة وأن عندهم حصانة من أن تستدعيهم الحسبة أو يقام عليهم دعوى في القضاء
نسأل الله سبحانه أن يهدي ضال المسلمين  

نص المقال
يُعرّف الفيلسوف الألماني كانط التنويرَ بأنه "خروج الإنسان من حالة القصور العقلي". ومعنى ذلك أن يمتلك الإنسانُ شجاعةَ استخدام عقله على أوسع نطاق. وصاحبنا المتنبي قبل أكثر من ألف عام، يؤكد – وبصورة أكثر وضوحا وبساطة ومُبَاشريّة – لا على مركزية العقل في تحقيق ماهية الإنسان فحسب، وإنما على مركزية العقل كمبرر لاستحقاق الأولوية في سلم الوجود الحيواني الذي ينتمي إليه الإنسان، فيقول:
لولا العقولُ لكان أدنى ضَيْغمٍ
أدنى إلى شرفٍ من الإنسان
فالإنسان لا تتحقق ماهيته بشجاعته التي طالما افتخر بها (فالشجاعة متحققة في العنصر الحيواني بصورة أكبر وأوضح)، بل ولا بأخلاقه من حيث العموم (فالأخلاق الغرائزية، غير المقصودة عقلا، ليست معدومة في العنصر الحيواني)، وإنما تتحقق إنسانيته بمقدار تحقق المعقولية فيه، إذ حتى الأخلاق لا تكون مُجدية، أي فاعلة في سياق الوعي المشترك الذي يعزز(الخير العام)؛ ما لم تكن معقولة - مُتعقّلة- مُدرجة، في بُنية الوعي الاجتماعي؛ فضلا عن كونها لا تحقق الصفة الخلقية ما لم تكن مقصودة، صادرة عن اختيار حر واعٍ، اختيار تتقصده المعقولية في فضاء تعددي يسمح بالخيارات الأخرى.
لم يكن بدعا أن يربط كانط التنويرَ - الذي هو إيديولوجيا التحقق الإنساني - بالعقل. فمن قبله كان عصر التنوير هو عصر العقل، كما كان هو عصر الإنسان. في عصر التنوير، عصر العقل، جرى التأكيد على حقوق الإنسان الأولية، وبصورة أساسية على أصل هذه الحقوق: الحرية؛ بقدر ما جرى التأكيد على مرجعية العقل الإنساني. فكان تحرير الإنسان في وجوده الواقعي/الاجتماعي، مشروطاً بتحرير عقله، أي بتحرير جوهر ما يكون به الإنسان إنسانا.
وكما أن التحرر العام للأوروبيين آنذاك استلزم تحرر العقل الجمعي/النظام الثقافي من أسر المرجعيات الماقبلية التي كان يجري التسليم بها كمسلّمات سابقة على العقل، فكذلك استلزم التحرر الفردي في وقائعه العينية تحرير كل عقل (عقول الأفراد: العقل متعينا في وقائع عَيْنية) من أسر المسلمات الأولى التي كانت تقضي بتعطيل العقل، إما لكونها مقولات أولى تدّعي امتلاك الحقيقة الناجزة - وجودا واكتمالا-، وإما لكونها مرجعيات بشرية تدّعي العصمة، وتطالب أتباعها بالاستقالة العقلية كشرط أساسي لتحقق محض الاتباع، الذي به – وفق هذا الزعم الخلاصي - يتم القبض على الحقيقة التي لا تخرج عنه بحال.
إذا كان التحرير العام للعقل، ومن ثم للإنسان، قد أصبح منجزا متحققا على مستوى الوعي الأوروبي الجمعي منذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، فإن تحرير العقل الفردي، ومن ثم، تحرير كل فرد بوصفه واقعة متعينة؛ بقي غاية مُلهمة لكل مشروعات التحرير التي تتغيا تحرير الإنسان بتحرير العقل (أو العكس: الحرية سابقة على العقل، كما في الوجوديات، أو في بعض تجليات ما بعد الحداثة..).
وهكذا أصبح التحرر الفردي، هو المضمار الذي يتكامل به التحرر الجمعي، والذي بدوره يعزز ويدعم كل محاولات التحرر الفردية، سواء من العقل إلى الإنسان، أو من الإنسان إلى العقل؛ لتنتهي كل صور هذا الديالكتيك إلى تكثيف حضور العقل الحر، الصانع لواقع الإنسان/الفرد الحر، ومن ثم الصانع لواقع إنساني، تتمدد الإنسانية فيه؛ بمقدار ما ترتفع – نمواً - درجة التعقّل/التحرّر في كل فرد، وبمقدار ما يُضاف إلى المجموع المتعقّل/المتحرر من أفراد يستقلون بعقولهم – ومن ثم بحريتهم – تباعا.
من هنا، يتضح كيف أن المجتمع الغربي تصدق عليه صفة: "المجتمع العقلاني"، كما تصدق عليه صفة: "المجتمع الحر"؛ وإن لم يكن كل أفراده عقلانيين متحررين. فما أنجزه الغرب في رحلة التنوير يتحدد في تحرير العقل/الوعي الجمعي، وبالتالي - وعلى نحو تفاعلي - تحرير الفضاء الاجتماعي من أدوات القسر؛ إلا قسرا على احترام الحرية ذاتها.
ونتج عن هذا أن أصبح العقل المتحرر مرجعية عامة في الفضاء الاجتماعي والمعرفي؛ بمقدار ما أصبحت الحرية مرجعية عليا، تستمد مشروعيتها من ذاتها، أي من حيث هي صفة مُعبّرة عن جوهر الوجود الإنساني.
هكذا تمت صياغة المجتمع الإنساني الحديث، المجتمع الحر، المجتمع العقلاني، الذي تتمفصل وقائعه النظرية والعملية على إيقاع التطورات المتسارعة التي تطال العقل الإنساني ذاته؛ كنتيجة لتراكم الخبرات النظرية والعملية، بما فيها الخبرات الروحية التي تم استيعابها مؤخرا في فضاء العقل الإنساني، الذي توسّع ليكون أعم واشمل، خاصة في محاولته استنكاه المعقول بين صفائح اللامعقول. وأيا كان الأمر، فالنتيجة التي كانت كامنة خلف كل هذه التجاذبات داخل الوعي الغربي أن المشروعية أصبحت مشروطة بالعقل في مجتمع العقل، بحيث أصبح الخارج على المجتمع (المجتمع الذي يمثل على نحو ما، وبدرجة ما، تمظهر التصور العقلاني) خارجاً على العقل، ومن ثم خارجا على الحرية، وبالتالي خارجا على الإنسان، كما أصبح الخارج على العقل، وعلى الحرية، خارجا على المجتمع، وبالتالي، متمردا على ماهية الإنسان.
لا يعني كل هذا أن المجتمع الغربي استبدل قيودا بقيود. فالمجتمع الحديث/العقلاني، لا يقدم العقلانية ذاتها في تصورات استاتيكيَّة جامدة، بل يُقدّمها في تصورات ديناميكية متفاعلة مع مسارات التطور المعرفي والمجتمعي. ومن هنا، فهي عقلانية مفتوحة الأفق لكل صور التعقل، ولا تنفي إلا ما ينفيه المشترك العقلاني المرتبط بشرط الحرية الإنسانية في راهنية هذا المشترك. أي أنه كمؤطر لهذا الأفق المفتوح، ليس مرجعا مؤبدا عابرا للزمان وللمكان، بل هو مؤطر ظرفي، يستمد مرجعيته من أفق الوعي الذي يعكس لحظة التطور ذاتها. وهذا ما يجعله أفقا قابلا للاختراق بواسطة لحظات الإبداع الخارقة، المتجاوزة لذاتها بذاتها، والتي هي في كل الأحوال لحظات تحاول أن تستشرف أسمى إمكانات الإنسان فيما وراء واقع الإنسان.
إنها رحلة التعقل/التحرر الإنساني، التي لا تعرف محطة وصولها سلفا، بل التي لا تعترف – ابتداء - بأن ثمة محطة وصول؛ لأن معناها التعقّلي التحرري كامن في السيرورة المتعقلة المتحررة ذاتها.
إنها رحلة انعتاق العقل حتى من العقل ذاته؛ كما هو في صورته التقليدية الجامدة على المعقوليات الظرفية أو على أوهام المعقولية. وبهذا تحرر العقل من العقل؛ فأصبح العقل عقلا متحوّلا في الوجود. وبناء على هذا؛ تحرر الإنسان، فغدا متحولا – أو قابلا للتحول – بلا حدود.
لم يكن هذا التحوّل طبيعيا/تلقائيا، بحيث يعم الوجود البشري كله، أو أكثره؛ فيصبح من لوازم تراكم حضارات الإنسان السابقة على حضارة الغرب المعاصرة. كان التحوّل حدثا استثنائيا بالدرجة التي خلق فيها مفهوما استثنائيا عن العقل/ عن الإنسان.
وإنه لمن الملفت حقا أن هذا التحول لم يتحقق إلا في الغرب تحديدا، وابتداء، ومن ورائه العالم المُتغرّب الذي يتعقلن ويتحرر بمقدار انخراطه التفاعلي في هذا التحول العقلي/الإنساني الاستثنائي.
لقد تعقلن/تحرر الغرب حقا؛ من حيث هو يتعقلن/يتحرر باستمرار، وليس من حيث كونه أتمّ واقعة التعقلن/التحرر في عصر الأنوار. وهذا ما جعله عالَما حيّا نابضا بالإبداع، وبالقدرة على الاستمرار، بل وبالقدرة على الانبعاث بعد كل أزمة، بل وبعد دمار حربين عالميتين جعلتاه على حافة الاندثار. وبهذا، كذّب كل تنبؤات الانحطاط التي كانت تنذر – أو تستبشر – بنهاية حضارته، وأثبت أن ما يجري من (تحول نوعي) داخل عقل الإنسان هو (المنجز الحضاري الحق) الذي يستعصي على كل صور الدمار، بما فيها الدمار الذي يبدعه عقل هذا الإنسان!.
تمرّ بالغرب أزمات كما تمر بغيره، بل وأكثر وأصعب مما تمر بغيره؛ لطبيعة تعقيد أزماته المركبة والمتعولمة في آن. لكن، يثبت الغرب في كل مرة أنه قادر على تجاوزها بالعقل المتحول المفتوح على كل إمكانات الإبداع. وهكذا، تأتي الحلول من حيث لم يتوقع أحد، بل من حيث لم يتوقع السائد الغربي في لحظته، إذ يأتي – في كل لحظة اختناق أو تأزم - مَن يفكر خارج صندوق العقل السائد؛ فيكسر الطوق، ويأتي بما لم تأتِ به الأوائل، ويفتح آفاقا أخرى غير متوقعة لعقل جديد، وبالتالي، لعصر جديد، عصر ينسخ (والنسخ ليس إلغاء هنا) ما قبله من عصور؛ إذ ينسخ ما قبله من عقول.
إذا تأملنا – بعمق – هذا العقل الغربي المتحرر/المتحول، الذي يتحرر به الإنسان حتى من الإنسان، ويتحوّل، متجاوزا إنسان اللحظة، المشروط بواقع متحول حتما؛ أدركنا – في المقابل – مأساة العقل العربي الثابت/القارّ/اللامتحوّل، العقل الذي لم يتحرر بعد من وَهْم معقوليته؛ فلم يستطع تحرير إنسانه.
إنه العقل الذي لا يزال يبحث عن حلول تقليدية لمشكلات وتأزمات غير تقليدية، وكأنه – في أحسن أحواله اجتهادا وإخلاصا - يصل بجرعات الدواء، بعد أن يكون الداء نفسه قد استحال إلى داء آخر لا علاقة له بهذا الدواء، ما يعني – بالضرورة - استفحال الداء، بعد تحوّل الدواء إلى داء.
ولا شك أن هذا هو سبب أننا ندور في دوامة مشكلاتنا، منذ أن وَعَيْنا حجمَ تخلفنا (منذ حملة نابليون)، وإلى الآن، بل وسبب استفحال مشكلاتنا وتعقّدها، حتى إن أكبر أزمة في تاريخنا (فلسطين) تتعقد علينا كلما اجترحنا لها الحلول، ولم نخطُ فيه - بعد سبعين عاما من النضال متعدد الوجوه - خطوة واحدة إلى الأمام، بل كانت كل خطواتنا تسير بنا إلى الوراء.
إن المعضلة هي معضلة عقل أولا وأخيرا. إن هذا العقل العربي اللاّمتحرر يكشف عن مستوى من اللاعقل، يتجاوز المستوى التقليدي: مستوى رفض العقل ذاته (كما في تراث الأثريات المخاصمة للعقل ابتداء).
اللاعقل هنا قد يبدو عقلا، إذ هو يبدأ بقبول العقل كمقولات برهانية ناجزة، تحيل إلى عصر عقلاني ما، ولكن دون أن تسمح بتجاوزه، أي دون أن تسمح بتحرير العقل ليصبح عقلا متحولا، ما يعني أنها لا تسمح بتحرير الإنسان.

  

التسميات: ,